إنَّ كلّ تاريخ بدايتُه مع الإنسان، من خلاله يتمُّ الإخبار عن الأمم وأحوالها وما يطرأ عليها وأهّم الأحداث التي تمرّ بها، مع إبراز معتقداتها ومقدّساتها وما تُعظّمه كرابطٍ يجمع بين أفرادها فتكون نسيجًا للُحـْمَةِ المُجتمعيّة.
هذه القاعدة، على صحّتها في مجال التاريخ، تختلف اختلافًا كُلِيًّا إذا ذُكُر بلد الله الحرام الذي وُجِد قبل أن تُوجَد البشريّةُ كُلُّها. والمقصود هنا تكوينها ومكانتها وعطاؤها وفضلها قبل أن يوجد المخلوق الذي اسمه إنسان.
ففي اليوم الذي خلق الله فيه السماوات والأرض، كان البلد الحرام أوّل مكانٍ خلقه من هذه الأرض، والدليلُ قوْلُ ابن عبّاس رضي الله عنهما بأنّ أوّل ماظهر للوجود في الأرض هذه البقعة المباركة (مكّة البلد الحرام) ثمّ دُحِيت وخرجت الأرض من تحتها.
وفي نفس اليوم الذي ظهر فيه البلد الحرام للوجود، ظهر وهو معلوم الوجود ومعلوم التحريم والتكريم والتعظيم مصداقًا لقول نبيّنا صَلّى الله عليه وسلّم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما:”إنّ هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهذا حرامٌ بحرمة الله إلى يوم القيامة” (متفق عليه).
ومعلوم أنّ بين خلق السماوات وخلق آدم آمادٌ وأحقابٌ لا يعلمها إلاّ الله.
إنّ اصطفاء هذه البقعة المباركة وتحريمها وتعظيمها قبل أن يكون الإنسان شيئا مذكورًا وقبل خلق آدم لها دلالات ينبغي التوقف عندها والانتباه إلى مايترتّب عنها من مقتضيات.
ولا ينبغي التوقّف عند الأسبقيّة الزمنية في الخلق فقط، وإنّما في معاني تعظيم المكان نفسه قبل خلق الإنسان، واستيعاب حقيقة أنّه حتّى بعد وجود هذا المخلوق الذي هو الإنسان لا نجد مكانًا أُعـطِيَ من الخصائص مثلما أُعـطِيَ البلد الحرام، ولايوجد مكانٌ له من التأثير أو أُعْطِيَ له تأثير مثلما أُعْطِيَتْ هذه البقعة المباركة.